لا تزال مصر غارقة في أزمة اقتصادية مرهقة تركت سكانها الذين يزيد عددهم عن 105 ملايين نسمة في حالة من عدم اليقين، لكن هناك شيئاً واحداً يبدو مؤكداً بشكل كبير، وهو أن خفضاً محتملاً لقيمة الجنيه قادم في الطريق.
ستكون هذه الخطوة المتوقعة هي الجولة الرابعة الرئيسية في رحلة خفض قيمة الجنيه المصري منذ أوائل عام 2022، وقد تكون الأكبر حتى الآن. وفي حال تم تنفيذها بشكل صحيح، فإنها قد تساعد في الاقتراب من القضاء على أسوأ أزمة شح للعملة الصعبة تشهدها البلاد منذ عقود، ما قد يساعد في جذب رأس المال الأجنبي إلى الاقتصاد البالغ حجمه 400 مليار دولار، وينقذه من حافة الهاوية.
تتزايد حالة الإلحاح في مصر، نظراً لأنها تواجه احتياجات تمويلية تقدرها مجموعة "غولدمان ساكس" بنحو 25 مليار دولار على مدى السنوات الأربع المقبلة.
لكن توقيت الخفض يعتمد على مجموعة من القضايا الخارجية والمحلية، مع قلق السلطات من التأثير ارتفاع التضخم المصاحب لخفض قيمة العملة، على السكان الذين يعانون بالفعل من غلو الأسعار.
بعد أن وصل الدولار إلى مستوى قياسي بلغ أكثر من 70 جنيهاً في السوق الموازية في وقت سابق من هذا الشهر، شهد الجنيه ارتفاعاً جزئياً. فمع حملة السلطات الأخيرة التي أجبرت العديد من تجار العملة غير الشرعيين على إغلاق عملياتهم، يتراوح المعدل الآن بين 60 و65 جنيهاً للدولار.
ورغم أن السعر الموازي لا يزال نحو ضعف السعر الرسمي الذي يبلغ 30.9 جنيه، فإن المزيد من تهدئة سعر الصرف سيجعل من السهل خفض قيمة العملة. كان الملياردير المصري نجيب ساويرس قد اقترح مؤخراً أن تحاول السلطات التوفيق بين السعرين.
تشير سوق المشتقات، التي تُستخدم للتحوط من المخاطر والمضاربة، إلى انخفاض حاد في قيمة العملة المصرية في الفترة المقبلة، حتى مع قيام المتداولين بتقليص الرهانات على انخفاض العملة المصرية. تراجعت العقود الآجلة غير القابلة للتسليم على الجنيه بشكل طفيف من مستوى قياسي مرتفع، حيث تبلغ الآن لأجل 12 شهراً أقل بقليل من 59 جنيهاً، مقارنة بذروة بلغت نحو 67 جنيهاً أواخر يناير الماضي.
وترى بعض البنوك العالمية تعديلاً أصغر في قيمة الجنيه المصري مما يتوقعه المستثمرون. حيث يتوقع بنك "سوسيتيه جنرال" أن تسمح مصر لسعر الصرف بالتراجع إلى نطاق 40-45 جنيهاً للدولار، وهو توقع مشابه لتوقعات "دويتشه بنك".
قالت آنا فريدمان وأوليفر هارفي، الاستراتيجيان في "دويتشه بنك"، في مذكرة: "من المرجح أن تتحرك السلطات بحذر في ضوء الأوضاع الخارجية غير المؤكدة والمتقلبة". وأضافا "لا نزال نرى سعر صرف الجنيه كنتيجة وليس كسبب للوضع الصعب الذي تشهده مصر".
يحث صندوق النقد الدولي مصر منذ أشهر على خفض قيمة عملتها. وتُعد هذه القضية مسألة رئيسية في المحادثات للتوصل إلى اتفاق جديد موسع مع البنك والشركاء قد يضمن لمصر تمويلاً بنحو 10 مليارات دولار.
يمثل أي تعليق من مديرة صندوق النقد الدولي كريستالينا غورغييفا دلالة مفيدة في دراسة الإشارات المتعلقة بتوقيت خفض قيمة العملة المصرية. صرحت غورغييفا هذا الشهر أن الصندوق ومصر في "المرحلة الأخيرة" للتوصل إلى اتفاق، كما وصفت العمل مع مصر بأنه "أولوية قصوى لصندوق النقد الدولي" وذلك خلال اجتماع مع رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي. وقد يكون هناك المزيد من الإشارات خلال الفترة القادمة.
سعدت بلقاء برئيس وزراء مصر مصطفى مدبولي. يمثل العمل مع مصر أولوية قصوى بالنسبة لصندوق النقد الدولي، وقد أحرزنا تقدماً كبيراً في مناقشاتنا بشأن مجموعة السياسات الشاملة الضرورية لاستكمال المراجعة الأولى والثانية لبرنامج الإصلاح الاقتصادي في مصر. pic.twitter.com/suJ0g7dL4L كريستالينا غورغييفا 12 فبراير 2024
يقول زياد داود، كبير الاقتصاديين في الأسواق الناشئة، إنه "بينما أصبح الوضع في مصر أكثر صعوبة، هناك جانب مضيء واحد. الممولون الخارجيون، مجلس التعاون الخليجي وصندوق النقد الدولي وأوروبا، من المرجح أن يتدخلوا في هذا الوضع الصعب لتجنب حدوث جيب آخر من عدم الاستقرار في الشرق الأوسط.
عادة ما تخفض مصر سعر صرف عملتها بالتزامن مع تشديد السياسة النقدية، وهي خطوة تسعى بها إلى كبح الطلب المحلي وجذب الاستثمار في الأصول المحلية، من خلال جعل العوائد أكثر ربحية.
قام البنك المركزي برفع سعر الفائدة القياسي بالتزامن مع تخفيض قيمة العملة مرتين في عام 2022، كما قام برفع سعر الفائدة بشكل كبير قبل أقل من أسبوعين من آخر تخفيض. ورفع المسؤولون في الأول من فبراير الجاري، سعر الفائدة على الودائع للمرة الأولى منذ أغسطس إلى 21.25%، وهو أعلى مستوى على الإطلاق، ومن غير المسبعد أن يكون هناك المزيد من الرفع قريباً.
ذكر الاستراتيجيون في "بنك سوسيتيه جنرال" في تقرير أن الخطوة الأخيرة "يمكن أن تكون دلالة على مجموعة أكبر من السياسات واسعة النطاق، من المحتمل أن يحددها صندوق النقد الدولي لصرف التمويل".
طرحت مصر أكثر من عشرين أصلاً مملوكاً للدولة، من البنوك إلى محطات توليد الكهرباء ومحطات الوقود، في مزاد علني سعياً لتأمين العملة الأجنبية. وانتعشت المبيعات بعد بداية بطيئة، حيث أعلنت مصر عن أكثر من ملياري دولار في النصف الثاني من عام 2023.
ومن الممكن أن يمنح استثمار كبير جديد، الدعم المالي اللازم للمسؤولين في مصر للقيام بخفض قيمة الجنيه من دون التعرض لخطر هبوط قيمته بشكل أكبر من المستهدف. أحد هذه الاحتمالات ينطوي على محادثات تجريها أبوظبي لشراء وتطوير رأس الحكمة، وهي منطقة متميزة على ساحل البحر الأبيض المتوسط في مصر، وقد قُدرت التكلفة المبدئية لهذا المشروع بنحو 22 مليار دولار.
رغم ذلك، فإن المحللين في بنك "باركليز" يتساءلون عما إذا كان الإطار الزمني لأي صفقة، والذي في الغالب سيكون طويلاً، من شأنه أن "يحقق فوائد فورية" لمصر، خاصة أن حجم الاستثمار الأجنبي المباشر الذي قد تتلقاه البلاد من هذه الصفقات غير مؤكد.
قال الاقتصاديون في بنك "باركليز"، ومن بينهم إبراهيم رزق الله، في تقرير إن "الاحتياجات التمويلية الملحة لمصر تضغط على توقعاتها"، في إشارة إلى التأثيرات المحدودة على المدى القريب لمشروع رأس الحكمة.
إحدى العقبات تتمثل في تزامن هذه التحديات مع شهر رمضان المبارك، والذي من المقرر أن يبدأ هذا العام في 10 مارس تقريباً، ما قد يفرض موعداً نهائياً غير رسمي لتخفيض قيمة العملة قبل ذلك الموعد. ويمثل شهر رمضان فترة التجمعات العائلية الكبيرة والوجبات المسائية الموسعة، ومن غير المرجح أن تنتظر السلطات حتى ذلك الحين لتعرّض المصريين لصدمة أسعار مفاجئة.
من المحتمل أن الحكومة تقوم بتهيئة السكان لارتفاع التضخم، فقد أعلنت يوم الأربعاء الماضي عن زيادة في الحد الأدنى لأجور موظفي الدولة بنسبة 50% اعتباراً من مارس المقبل. وهي جزء من حزمة حماية اجتماعية أوسع تقول السلطات إنها تبلغ قيمتها نحو 180 مليار جنيه (5.8 مليار دولار)، لكنها لم تحدد إطاراً زمنياً لها.
يقول فاروق سوسة، الخبير الاقتصادي في بنك "غولدمان ساكس"، إن من المحتمل أن تسمح مصر بقدر أكبر من المرونة في قيمة الجنيه مع استمرارها في "إدارة سعر الصرف الرسمي في المستقبل المنظور". ولا يزال الطلب على العملة الصعبة مرتفعاً، في وقت لا يملك النظام المصرفي سيولة كافية من العملات الأجنبية.
أضاف سوسة: "للتغلب على هذه التحديات، نعتقد أن هناك حاجة إلى مزيد من تشديد السياسات، ويتعين على القطاع الرسمي بناء احتياطيات كافية من السيولة بالعملة الأجنبية قبل أي محاولة لتوحيد سعر الصرف عن طريق خفض قيمة العملة".