من روائع الفلكلور الألمانى والتى تناقلها العديد من الشعراء والمؤلفين عبر العصور قصة الزمار صاحب الملابس كثيرة الألوان The Pied Piper of Hamelin. تروى قصة مدينة هاملين الألمانية التى كانت تعانى من انتشار الفئران فيها، وعندما جاءهم زمار اتفق معهم أن يقوم باستخدام مزماره السحرى لطرد هذه الفئران مقابل مبلغ من المال. ولكن بعد قيامه بالمهمة رفضت المدينة أن تدفع أتعابه فانتقم باستخدام مزماره السحرى ضد أطفال المدينة. من كنف هذه القصة، نشأت عبارة «آن أوان محاسبة الزمار» فى اللغة الإنجليزية للتعبير عن حلول ساعة المحاسبة على أفعال ماضية.
للأسف يبدو الاقتصاد الأمريكى ــ وهو الأهم فى العالم ــ فى مفترق طرق، كل عواقبه صعبة. هو موقف يطلقون عليه بالإنجليزية Catch 22 منسوبا لرواية أمريكية أخرى شهيرة بنفس العنوان. فى بداية عام 2023، كنا توقعنا تباطؤا اقتصاديا ناتجا عن زيادة مطردة فى أسعار الفائدة على الدولار الأمريكى.
وإذ بنا نفاجأ بنمو اقتصادى مدفوع بصرف هيستيرى من قبل الحكومة الأمريكية نتج عنه عجز موازنة هو الأكبر رغم عدم معاناة الاقتصاد من أى ركود. فالركود هو المبرر الطبيعى لمثل هذا العجز (بدعوى الخروج من حالة ركود). حتى الفرصتين اللتين لاحتا للحزب الجمهورى لتعطيل هذا الصرف قام بإهدارهما عندما قام الثعلب العجوز بايدن بقيادة مفاوضات رفع سقف الدين ثم مفاوضات قانون الموازنة المؤقت والذى سمح باستمرار تمويل الحكومة الفيدرالية حتى منتصف شهر نوفمبر. القانون الأخير كلف السيناتور الجمهورى مكارثى منصبه كقائد للأغلبية فى مجلس النواب.
أدى استمرار عجز الموازنة والمرور من جميع العقبات أعلاه وبالتالى استمرار الصرف المبالغ الذى تقوم به الحكومة الأمريكية إلى ارتفاع كبير فى معدل الفائدة على السندات الأمريكية بأجل 10 سنوات إلى أعلى قيمة له منذ 16 عاما. خطورة ذلك أن سعر الفائدة هذا هو الأهم فى العالم حيث تتحدد على أساسه الكثير من أدوات الاستثمار والتمويل. أما عن مفترق الطرق الذى يواجهه الاقتصاد الأمريكى فهو أن الطرفين سيدخلان من جديد فى مفاوضات لإقرار قانون موازنة العام المالى مع وجود قائد جديد للحزب الجمهورى فى مجلس النواب. من ناحية لا يريد الجمهوريون أن يتحملوا التبعات السياسية لتوقف التمويل للحكومة الفيدرالية وما يتبع ذلك من توقف مرتبات وإغلاق مرافق. من ناحية أخرى، قد لا تتوفر لهم فرصة أخرى أو أفضل قبل انتخابات العام القادم لإيقاف قطار الاقتصاد الأمريكى. التضخم مرتفع وسعر الفائدة مرتفع وكلاهما يكرهه المواطن الأمريكى، فربما يكون لديهم أرضية للدخول فى مفاوضات قاسية من موقف أفضل عن ذى قبل. وبالتالى، فالاقتصاد الأمريكى الآن أمام سيناريوهات أحلاها مر:
1ــ إما سيتم إقرار عجز موازنة أصغر عن ذى قبل وبالتالى تتسبب فى ضعف نسبة النمو مما سيعنى معاناة أكبر على المدى القصير وربما المتوسط مثلما حدث فى منتصف التسعينيات.
2ــ أو سيتم تمرير قانون الموازنة بالعجز الكبير وبالتالى يستمر ارتفاع معدل الفائدة على سندات الـ 10 سنوات وهذا بالتالى يعنى أن أحد السيناريوهين التاليين سيحدث:
• إما يتسبب الارتفاع فى تجفيف السيولة من الأسواق أو ما يسمى بتضييق الظروف المالية Tightening of financial conditions.
• أو سيقوم الفيدرالى الأمريكى برفع أكبر لمعدل الفائدة على الودائع قصيرة الأجل من أجل كبح جماح النمو وبالتالى تقييض معدل الفائدة على سندات العشر سنوات مثلما حدث فى الثمانينيات فى ظروف مشابهة لمكافحة التضخم.
أما عن معنى ذلك، فهو يعنى أن الاقتصاد الأمريكى وهو النقطة المضيئة الأخيرة فى الاقتصاد العالمى خلال العام الجارى سيبدأ فى تحقيق التباطؤ الذى توقعناه نهاية العام الماضى إما بتأثير من المشرع الأمريكى أو من عصا الأسواق التى لا ترحم أو من حاجة الفيدرالى الأمريكى لضبط الأسواق. كما ذكرت من قبل، هى نفس الظروف التى صاحبت تعثر العديد من دول العالم الثالث فى الثمانينيات والتسعينيات. وبينما يعنى ذلك بعض النقط المضيئة فى الاستثمار العالمى، فسيعنى أيضا تعرية الكثير من الشركات والمؤسسات بل والبلاد صاحبة الماليات الضعيفة، مما يذكرنا بمقولة وارن بافيت الشهيرة «عندما يكون البحر منخفضا، نرى بوضوح من يسبح عاريا».