إن مشكله الاقتصاد المصري لا تكمن في سعر الصرف، فما ارتفاع سعر الدولار وتدهور قيمة الجنيه المصري إلا عارض، ولكنها تكمن في الاقتصاد المصري نفسه بإختلالاته الهيكلية، ولتقريب الصورة إلى ذهن القارئ، فإن إختلال سعر صرف الجنيه المصري أمام الدولار بمثابة معاناة مريض السرطان من الألم المبرح لهذا المرض اللعين بينما الاختلالات الاقتصادية الهيكلية هي السرطان الذي ينهش في الاقتصاد المصري، وبالتالي فإن إعطاء دواء مسكن لمريض السرطان سوف يذهب الألم لفترة مؤقته وبعد ذلك يعاود السرطان نشاطه بصورة أشد شراسه في الفتك بجسد المريض.
إن التعويم كالمسكن الذي يزيد الحصيلة الدولارية لفترة مؤقته قد تطول أو تقصر حسب مقدار الخفض في قيمة الجنيه المصري مقابل الدولار ولكنه لا يقضى على الاختلالات الهيكلية في الاقتصاد المصري بأي حال من الأحوال والتي تزداد حدة بعد زوال آثار التعويم، وبالتالي فإن تعويم الجنيه المصري لن يجدي نفعًا في إصلاح الاختلالات الهيكلية في الاقتصاد المصري ولن يفلح في توحيد سعر صرف الدولار في أسواقه المختلفة.
إن الاختلالات الهيكلية للاقتصاد المصري تعود الي العجز الدائم والمتزايد في الميزان التجاري المصري (زيادة حجم الواردات عن حجم الصادرات) والذي بلغ 26.528 مليار دولار سنه 2008 وصولاً إلى 48.06 مليار دولار بنهاية 2022 متراجعًا الي 36.9 مليار دولار بنهاية عام 2023 نتيجة لعدم توفر الدولار للإفراج عن بضائع بمليارات الدولارات في الموانئ المصرية.
وقد وصل العجز في الميزان التجاري الي52.397 مليار دولار في سنة 2015 و إلى52.397 مليار دولار في سنة 2018 (حسب البيانات المنشورة من جانب الجهاز المركزي للتعبئة العامة والاحصاء)، وهو ما خلق ضغوط تضخمية على سعر الدولار.
ومن الأسباب الرئيسية التي أدت الي العجز الدائم في الميزان التجاري المصري عدم التوازن في الانفاق على القطاعات الاقتصادية المنتجة بالدولة كالصناعة والزراعة (الذي يوفر احتياجات الدولة من العملة الصعبة) بنفس القدر من الانفاق على القطاع العقاري والطرق والتشييد الذي يستورد أكثر من 70% من احتياجاته من الخارج (وبالتالي يستنزف جزء كبير من مصادر الدولة من العملة الصعبة). ففي الكثير من السنوات تجاوز معدل النمو في القطاع العقاري الـ 7% بينما معدل النمو في الناتج القومي لم يتجاوز الـ 3.6% وهذا يعني أن القطاعات الاقتصادية المنتجة المختلفة في البلد قد عانت من انكماش في حدود 3.4% خلال هذه السنوات، وهو ما ضاعف الضغوط التضخمية على سعر الدولار.
كما يعاني الاقتصاد المصري من زيادة حجم الاقتصاد الغير الرسمي والذي تجاوز الـ 159.36 مليار دولار وبنسبة 40% من الناتج القومي الإجمالي بنهاية 2023، ارتفاعًا من 58.28 مليار دولار فى سنة 2008 وبنسبة 35.8% من النتاج القومي الإجمالي، حسب بيانات البنك الدولي، وهو ما زاد من الضغوط التضخمية على سعر الدولار.
إلا أن التوسع في الاقتراض من الخارج بالعملات الصعبة بطرق غير مدروسة وغير مبرمجة مع عدم الاعتماد على أي نموذج تمويلي مستدام يضمن التوازن ما بين خدمة مستحقات هذه القروض بالعملة الصعبة ومصادر الدولة من العملة الصعبة، قد لعب دورًا الخطورة في الضغط على سعر الصرف بما أدي إلى دهورة قيمة الجنيه المصري امام الدولار؛ حيث ارتفع حجم الدين الخارجي من 33.9 مليار دولار سنة 2008 الي 164.73 مليار دولار بنهاية سنة 2023 ، بينما ارتفع اجمالي الناتج القومي من 162.82 مليار دولار سنة 2008 إلى 398.4 مليار دولار سنة 2023.
أي أن نسبة الدين الخارجي بالدولار الي اجمالي الناتج القومي بالدولار قد ارتفعت من 20.82% سنة 2008 الي 41.35% سنة 2023 ، وهو ما زاد من الطين بله في خلق ضغوط تضخمية علي سعر الدولار، فضلاً عما سبق، فإن وجود أسواق للجريمة المنظمة تتعلق بتجارة المخدرات والآثار والمال السياسي وتجارة السلاح والرشاوي الدولية والاتاوات وعدم الحزم التام في التعامل الأمني مع هذه الأسواق قد أدي تفاقم الضغوط التضخمية على سعر الدولار.
إن العوامل السابقة مجتمعة قد ادت الى تعدد أسواق الدولار وتعدد أسعاره في أسواقه المختلفة سواء كانت (1) أسواق رسمية داخل الجهاز المصرفي المصري أو (2) أسوق غير رسمية داخل الدولة المصرية أو (3) أسواق غير رسمية خارج الدولة المصرية، وهو ما تم تناوله بالتفصيل في مقال سابق.
وبالتالي فإن دهورة الجنيه كمحاولة بائسة لتعويمه لن تجدي نفعا في إصلاح الاختلالات الهيكلية للاقتصاد المصري، إن سعر التوازن الوهمي للدولار ما هو إلاسراب في صحراء اقتصادية قاحلة قد يلقي فيها الاقتصاد المصري حتفه "إن لم يتوقف عن السعي وراء هذا السراب" والعمل الجاد على تنفيذ برنامج اصلاح اقتصاد داخلي وليس مفروض عليه من الخارج سعيًا وراء اسقاطها.