من حسن طالعى أنى أعمل فى مجال يناسب شخصيتى وطباعى. فمنذ نعومة أظافرى وأنا أحب أن أتعرف على الجديد فى العالم وأن ألاحظ الروابط والعلاقات بين الأحداث. فيشاء الله أن أدير صناديق استثمار باستراتيجية الاقتصاد الكلى العالمى Global Macro والتى تعتمد على ملاحظة الجديد فى العالم ومحاولة استباق أهم الاتجاهات الاستثمارية العالمية أو بالأحرى ملاحظتها مبكرا للاستفادة من الاستثمار بها.
منذ عدة أشهر ظهر مصطلح جديد وهو «السويفتانومكس» والمقصود به هو الاقتصاد المرتبط بمغنية البوب الأمريكية «تيلور سويفت» وهى الظاهرة الأمريكية الجديدة فى عالم موسيقى البوب. العام الماضى بدأت سويفت جولة ترويجية وأحيت حفلات فى عدة مدن حول العالم، وكانت هذه الجولة الأكثر مبيعا وأرباحا فى التاريخ. وكان تأثيرها الاقتصادى والاجتماعى بل والسياسى عميقا لدرجة أن سياسيين كبارا طالبوا سويفت أن تقيم حفلات فى بلادهم ومنهم رئيس الوزراء الكندى ورئيس شيلى. قدرت مجلة فورتشن الأمريكية الشهيرة حجم الصرف الذى صاحب الجولة فى الولايات المتحدة فقط بحوالى 4،6 مليار دولار وبالتالى سببت انتعاشة اقتصادية فى كل المدن التى زارتها. شىء من ذلك أيضا حدث مع المغنية الأمريكية «بيونسيه» عندما زارت السويد حيث تسببت فى زيادة حجم الطلب على الفنادق، والمطاعم، وباقى الخدمات، إلى حد أنها تسببت أيضا فى ارتفاع معدل التضخم وحجم الناتج المحلى فى الشهر الذى أقامت فيه حفلتها. هى القوة الناعمة التى أصبحت قوة غاشمة فى الاقتصاد والاجتماع والسياسة. هى القوة التى تحدثنا عنها فى مقال سابق عندما تذكرنا موسم مصر المسرحى والذى كان قبلة للسياحة الخليجية خاصة خلال شهور الصيف. فى دراسة حديثة لشركة كولينسون المالكة لعدد من الشركات العاملة فى مجال السياحة الدولية، توقعت أن يصل حجم السياحة الرياضية والفنية فى العالم إلى تريليون ونصف دولار أمريكى فى عام 2032 وهو أكثر من ضعف حجمها الحالى.
للأسف أننا افتقدنا أو نسينا أو تناسينا هذه القوة التى كانت تجعل القاهرة مركزا ثقافيا للعالم العربى كله. لكن قوة هذا الشعب الغاشمة تكمن فى إبداع ينبع من المعاناة بل ويزداد معها. مصر التى ولدت أم كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم وقبلهم عبده الحامولى وسيد درويش تصر أن تبقى فى المقدمة. لا يوجد فن بلا معاناة ولا يوجد إبداع بلا تجربة حياتية حقيقية. لذلك تعانى بلاد أخرى من تضاؤل حجم وقيمة إنتاجهم الفنى والثقافى بالرغم من توفر بل وتوافر القدرات المادية. وتتعظم بل وتتعاظم القيمة الفنية والثقافية المصرية بالمقارنة حتى مع عدم توفر البيئة المثالية.
قد يتعجب الكثيرون من رأيى هذا خاصة بعد أن ذكرت عمالقة الفن فى الزمن الجميل ولكن مصر الآن بها ثورة فنية حقيقية تتمثل فى ألوان من الفن بعضها جديد وبعضها متجدد تأتى من الشارع وما تحت الشارع (الاندرجراوند). أخص بالذكر هنا الراب المصرى وهو فى تقديرى من أقوى الأشكال الفنية العربية الحديثة؛ بكلماته وموسيقاه ومحتواه وثقافته. وفى مصر العديد من مغنيى الراب الذين يعكسون نبض الشارع وآمال هذا الجيل ومخاوفه. غير الراب، يوجد عدد لا بأس به من مطربين الأغنية الشعبية فى أثوابها الجديدة المختلفة؛ سواء كانت مواويل أو طربا أو مهرجانات يستحقون الالتفات لفنهم.
الفن الحقيقى يعكس المجتمع وينعكس عليه. قد نستاء أو نُصدم من محتوى بعض الأغانى ولكن لا يحق لنا بأى حال من الأحوال أن نهاجمها فهى تعكس واقعا حتى وإن لم يعجبنا. وجهة نظرى أنه بدلا من مهاجمة هؤلاء الفنانين من الأحرى أن نحتضن هذه المواهب الشابة وهذه الفنون الجديدة والمتجددة بل وأن نشجعها على أن تكون جزءا من القوة الناعمة المصرية الجديدة وأن تصبح فرعا جديدا نستفيد منه اقتصاديا. حتى على المستوى الاجتماعى هذا الاحتضان والمساندة قد تمكننا من استخدام هذه الفنون الجديدة فى توجيه الشباب والمجتمع بعض التوجهات الإيجابية. أرجو أن نتمكن من أن نتعدى مرحلة الصدمة وأن نتحول لمرحلة التعامل مع هذه المعطيات الفنية والثقافية الجديدة فى أقرب وقت ممكن.