جاءت هزة البورصات العالمية وما أعقبها من حركة مفاجئة وسريعة للأموال الساخنة لتعيد التساؤلات حول ضرورة ايجاد حلول مستدامة لضمان سوق صرف مستقر وعملة قوية قادرة علي الصمود امام التغيرات والظروف غير المواتية محليا او اقليميا او دوليا وبالطبع كانت ولازالت وستظل الاجابة تكمن في كلمة واحدة هي "الانتاج" الذي من خلاله نستطيع التصدير وتوفير تدفقات مستدامة من العملة الصعبة وايضا توفير الاحتياجات المحلية البديلة للمنتجات المستوردة مما يساهم في وقف استنزاف موارد النقد الاجنبي ونفس الاجابة ستجدها حاضرة كحل لأغلب المشاكل الاقتصادية مثل علاج خلل ميزان المدفوعات والميزان التجاري وخفض معدلات البطالة وزيادة معدلات النمو في القطاعات الاقتصادية المختلفة.
"الانتاج" كإجابة مختصرة يعني علي امتداد الخط جذب وتشجيع الاستثمار بمفهومه الواسع صناعة وزراعة وتجارة وخدمات وتكنولوجيا والحقيقة اننا لا ينقصنا بالفعل قوانين او لوائح لكن ما نحتاجه فعلا هو التطبيق الجيد بعيدا عن مرار الروتين والبيروقراطية المعوقة ولذلك فان القرارات الحكومية الاخيرة الخاصة بحماية المنشئات الصناعية من شبح الروتين ومعوقات الجهاز البيروقراطي سيكون لها اثر ايجابي في النهوض بالصناعة المصرية وزيادة معدلات الاستثمار المباشر في قطاعتها المختلفة.
ولضبط المفاهيم فان جميع المهتمين بالاقتصاد يرحبون بالنظام الجيد دون اجحاف او تغول من الجهات المختلفة التي وصلت في بعض القطاعات لأكثر من اربعة عشر جهة رقابية.
ولمزيد من التوضيح ومن واقع دراستي لعلوم الفلسفة في المرحلة الجامعية كان (الروتين) هو جزء من اطروحات مبادئ تكون الدولة الوطنية ونشأتها كجزء من التطور الانساني وذلك بمعني انه النظام العام الذي تنشئه الحكومات لادارة الشئون العامة في كل المجالات ورغم التصور العلمي الحميد للروتين كمفهوم نظري الا ان الواقع المعاش فعليا وما زُرع في الوعي الجمعي اصبح الروتين مفهوم وتطبيق سيء السمعة.
وحتي عام 2002 كنت لازلت متأرجحاً بين المفهوم الجيد والتطبيق الرديء الي ان اصبحت ولأول مرة بحكم مسئوليتي عن اكبر شركة مصرية في مجال تجارة التجزئة حين ذاك في مواجهة مباشرة مع التطبيقات الحية والواقعية والتي اكتشفت اننا امام ليس فقط تطبيق واحد لمفهوم مختلف ولكن تطبيقات مختلفة لمفاهيم متعددة كلها تحمل اسم "الروتين" فاكتشفت بحكم خبرة السنوات التالية وتعددها ان هناك روتين القوانين وروتين اللوائح وروتين الموظفين وروتين المديرين وحتي روتين المواطن.
والغريب ان كل "روتين" منهم له قواعد وحدود متعارف عليها ولو ضمنيا فلا انت ولا المدير الأعلى او الأدنى تستطيع ان تتجاوز روتين الموظف اليوم في القدوم لمكتبه صباحا وفق طريقته والاطلاع علي الصحف وعرض انجازاته الليلية في حديث سريع مع الزملاء او حتي مع المواطن ولا تجرؤ علي طلب ما تريد قبل ان يتناول السندويتش الصباحي وما يليه من (الاصطباحة) أيا كان نوعها قهوة او شاي او حتي شاي بحليب ... هذا الروتين البسيط وغير المكتوب او غير الموجود في اي قانون او لائحة لا احد يستطيع تجاوزه فعليا وان حدث اختراق فإنها الكارثة التي قد تؤدي الي انهيار دولاب العمل نفسه .
ولذا كان هذا الحال في روتين للموظف العادي فما بالك بكافة الانواع الأخرى التي قد تكتسب الي جانب قوة العادة رهبة السلطة او سيف القانون ...
لذلك ففي الكثير من اللقاءات الصحفية والمناقشات الاقتصادية كنت اطالب دائما بالحد من شبح الروتين ومعوقات البيروقراطية وهو ما اصبح واقعا في القطاع الصناعي بعد القرارات الاخيرة ولعله ينسحب قريبا لباقي القطاعات بما يضمن بتر معوقات البيروقراطية وازالة عوائق الاستثمار القاتلة في كافة القطاعات خاصة وان القطاع الصناعي لا يعمل وحده ويحتاج لكافة القطاعات الأخرى فالقطاع الزراعي هو مصدر الخامات وقطاع الخدمات هو وقود الصناعة والقطاع التجاري هو حلقة الوصل مع المستهلك النهائي وهو المسئول عن ضمان استدامة دورة راس المال الصناعي..
لذلك يصبح من الضروري وضع تصور شامل يضمن التوسع في حماية الاقتصاد من الشبح البيروقراطي الذي يعوق اي انطباق استثماري علي مستوي خطة النمو الاقتصادي المطلوب حاضرا ومستقبلا .