"الفزع المصرفي" هذا الاصطلاح المعروف بنكيا والذي يعني تزاحم نسبة غالبة من مودعين بنك ما علي البنك لسحب اموالهم في وقت متزامن مما يؤدي لعجز البنك عن الوفاء بحقوق هذا العدد الكبير من المودعين في هذا الوقت الضيق نسبيا وصولا لانهيار منظومة الثقة بالبنك ...
وتمتاز أزمات البنوك بخصائص العدوى السريعة والمميتة فبمجرد تعرض بنك ما لمثل هذه الحالة فان العدوى تنتقل سريعا لبنوك أخرى وتظل تمتد الي كافة القطاعات الأخرى الي ان يحدث تدخل حكومي قوي مساند وداعم للبنوك والمودعين في الوقت نفسه وغالبا ما تجد الحكومات نفسها مجبرة علي التدخل ليس فقط لحماية البنك او المودعين او الجهاز المصرفي بل لحماية الاقتصاد كله لان ازمات البنوك هي من نوع الازمات السرطانية اذا لم تجد تدخل قوي وفعال فإنها تمتد الي كافة القطاعات الصناعية والتجارية والخدمية فهي اجمالا قد تؤدي الي انهيار المنظومة الاقتصادية بالكامل ...
وعودة الي البداية بتساؤل بسيط في الطرح وان كان معقد في الاجابة كيف تحدث ازمات البنوك او كيف يصل المودعين لمرحلة "الفزع المصرفي"..؟؟ وللإجابة هنا نستعرض حقائق مع ما حدث في الأزمة الاخيرة لبنك سيلكون فالي.
خلال الفترة ما بين 2019 حتى بدايات عام 2022، كانت معدلات الفائدة منخفضة للغاية، حيث كانت تتراوح ما بين 0% و2.5%. القاعدة هنا تقول: كلما انخفضت فائدة البنوك، كان هذا دليلا على قوة السوق وارتفاع معدلات الاستثمار في المشاريع التي تجلب أرباحا أكبر من فوائد البنوك.
وزادت الإيداعات في بنك سيليكون فالي، حيث صعدت من 60 مليار دولار عام 2019 إلى 189 مليار دولار عام 2022، إلا أنه ومع استمرار انخفاض سعر الفائدة، وضرورة تشغيل هذه السيولة الهائلة المودعة في البنك لتوليد أرباح بشكل أكبر من القروض البنكية أو تمويل المشاريع الناشئة؛ بحث البنك عن الاستثمار في مجالات أخرى تكون عالية الأمان ولديها عائد جيد مقارنة بسعر الفائدة المنخفض آنذاك.
استثمر البنك نحو 80 مليار دولار في أدوات السندات الحكومية، وهي تعد أدوات دين عالية الأمان بعائد يقدر بنحو 1.5% في المتوسط، بالطبع مع معدلات فائدة منخفضة للغاية تقترب من الصفر، فإن نسبة 1.5% ليست سيئة، المشكلة الكبرى فقط ستأتي إذا بدأت أسعار الفائدة في الارتفاع.
لسوء الحظ، كان هذا هو ما حدث بالفعل، فحتى مارس 2022 رفع الفدرالي الأميركي سعر الفائدة 8 مرات لمواجهة التضخم العالمي، حتى وصل إلى سقف 4.75%، وهو ما يعني أن البنك أصبح يدفع مبالغ أكبر للمودعين، مقارنة بعوائد منخفضة يحصل عليها من استثماراته.
بمعنى أوضح، بدأ الفرق يتسع ليتحول إلى أزمة في توفير السيولة الكافية من طرف البنك للمودعين، وزاد الطين بلة تراجع الكثير من مؤسسات الاستثمار عن ضخ تمويلات للشركات الناشئة، ومن ثم تراجع معدل إيداع الشركات لأموالها في البنك.
وفي النهاية لم يستطع البنك استيفاء متطلبات المودعين بتوفير أموالهم في ظل نقص السيولة المالية، وقرر البنك بيع سندات بقيمة 21 مليار دولار، متحملا خسارة قدرها نحو 1.8 مليار دولار في هذه العملية، فضلا عن إعلان نيته في إصدار المزيد من السندات بقيمة 2.25 مليار دولار لسد الفجوة التمويلية.
وهكذا أصبح البنك لديه مشكلات سيولة حقيقية وحاول تأخير الوقت الذي يُعلن فيه عدم قدرته على رد أموال المودعين، وكانت هذه اللحظة تحديدا بداية موجة فزع من المتعاملين مع البنك.
ومع حالة الهلع التي انتابت الجميع، صدرت البيانات الصحفية لتصب المزيد من البنزين على النار، مع أخبار انهيار سهم البنك بنسبة تزيد على 70%، وأنه بدأ رحلة سقوط حر لا وقوف لها.
وبحلول 9 مارس الماضي، مع المزيد من الانهيار في قيمة السهم، انهالت طلبات آلاف المودعين بسحب ما قيمته 42 مليار دولار من الودائع في يوم واحد، وهو أمر يستحيل على أي بنك مهما كانت موارده المالية أن يلبيه، الأمر الذي عرضه لظاهرة "الفزع المصرفي".
ومن مبدأ او مثل (التكرار يعلم الشطار) يبدو ان دروس ازمة البنوك في 2008/2009 كان لها الاثر الفعال في اختلاف رد الفعل من جانب الحكومة الامريكية فبينما استمرت ازمة 2008 لمده عامين وضربت العديد من المؤسسات المالية والاقتصادية في امريكا والعالم بفعل تباطؤ الحكومة الامريكية في التعامل مع الازمة نجد ان الحكومة الامريكية في الازمة الأخيرة تدخلت بشكل سريع وفعال بحزمة انقاذ وطرح عدة حلول قوية ومتعددة ادت الي احتواء الازمة الي حد كبير والسيطرة علي تسلسل العدوى المفرط مما جنب النظام المصرفي والنظام الاقتصادي كله الامريكي والعالمي ازمة جديدة طاحنة تضاف الي مسلسل الازمات القائم بالفعل والذي لازال يبحث عن حلول تبدو لاتزال بعيدة المنال سواء الازمة الروسية الاوكرانية وتداعياتها او ازمات الطاقة و أزمات سلاسل الامداد والتوريد بالإضافة الي التداعيات الكارثية لسياسات الفيدرالي الامريكي علي اقتصاديات الدول الأخرى وعلي وجه الخصوص الاقتصاديات النامية والناشئة.