الذكاء الاصطناعي يعيد تشكيل مستقبل الخدمات المالية في مصر
نحن نعيش لحظة استثنائية في مشهد التكنولوجيا المالية في مصر، حيث تتقاطع التحديات الاقتصادية مع الطموحات التنموية، ويصعد الذكاء الاصطناعي ليتحوّل من كونه أداة تقنية إلى عنصر جوهري في صياغة مستقبل الخدمات المالية.
ومع وجود نسبة كبيرة من المواطنين لا تزال خارج النظام المصرفي، وفي ظل التقلّبات الاقتصادية التي تزيد من الضغوط على الأفراد والمؤسسات، لم يعد الذكاء الاصطناعي تكنولوجيا رفاهية، بل بات ضرورة استراتيجية لإعادة تعريف مفاهيمنا حول الشمول المالي، إدارة المخاطر، واستدامة النمو في القطاع المالي.
رؤية مصر 2030 أعطت الأولوية للتحول الرقمي كرافعة أساسية لتحقيق الشمول المالي، وقد حققنا بالفعل خطوات ملموسة على هذا الطريق؛ فبحسب البنك المركزي المصري، ارتفعت معدلات الشمول المالي بنسبة 204% خلال الفترة من 2016 وحتى نهاية عام 2024، وبلغ عدد المواطنين الذين يمتلكون ويستخدمون حسابات نشطة تمكنهم من إجراء معاملات مالية ما يقرب من 52 مليون مواطن.
ورغم هذه القفزة، فإن ما يقرب من 25.2% من المصريين لا يزالون خارج مظلة النظام المصرفي التقليدي. هذا الرقم لا يمثل فجوة مالية، بل فرصة لإعادة النظر في من نعتبره "عميلًا ماليًا"، وكيف يمكن الوصول إليه بوسائل غير تقليدية.
الذكاء الاصطناعي كأداة للعدالة المالية
في هذا السياق، يبرز الذكاء الاصطناعي كوسيلة ثورية لتوسيع نطاق الخدمات المالية خارج الأطر التقليدية. قدرته على تحليل البيانات غير النمطية – مثل فواتير الكهرباء، وسجلات استخدام الهاتف المحمول، وأنماط الاستهلاك اليومية – تتيح تقييم الجدارة الائتمانية حتى للأفراد الذين لم يتعاملوا يومًا مع مؤسسة مصرفية. هذا التحوّل يمنح شركات التكنولوجيا المالية أدوات غير مسبوقة لتقديم خدمات تمويل بسيطة ومرنة، مثل التمويل الاستهلاكي، خطط التقسيط، و منتجات التأمين متناهية الصغر، لفئات لطالما كانت مُهمّشة ماليًا.
الذكاء الاصطناعي لا ينبغي أن يُستخدم فقط لتسريع العمليات وتحسين الكفاءة، بل هو أداة استراتيجية قادرة علي جعل هذه الخدمات اكثر شمولا، عن طريق تقديم خدمات مالية مبتكرة وفعالة من حيث التكلفة، مما يساهم في سرعة استقطاب شريحة اكبر من غير المتعاملين مع القطاع المصرفي، مما يسرع من وتيرة تحقيق الشمول المالي. . وإذا كنا نسعى لتحقيق شمول مالي حقيقي، فعلينا أن نُعيد تصميم الخدمات المالية بما يتناسب مع احتياجات هذه الفئات، بدلاً من محاولة إدماجها في نماذج تقليدية لم تُصمَّم أساسًا لها.
الأمان أولاً: لا شمول مالي دون ثقة
ومع التوسّع في استخدام الخدمات الرقمية، تزداد أهمية حماية المعاملات وتأمين البيانات. الذكاء الاصطناعي لا يقدّم فقط حلولًا للوصول إلى العملاء الجدد، بل يلعب أيضًا دور الحارس الرقمي الذي يراقب السلوك المالي في الزمن الحقيقي، ويتوقّع محاولات الاحتيال، ويتفاعل معها بذكاء يفوق قدرات الأنظمة التقليدية.
ومثالً على ذلك، بدأنا في بساطة استخدام هذه التقنيات بشكل ملموس، مما سمح بتقديم حلول مالية مبتكرة مثل "بطاقة بساطة" التي تتيح للأفراد خارج النظام المصرفي الحصول على خدمات مالية باستخدام بطاقة الرقم القومي فقط. وهذه الخطوة تشكل جزءًا من الحلول التي تتيح للجميع، سواء في المناطق الحضرية أو الريفية، الوصول إلى عالم الخدمات المالية بشكل أمن وسريع.
الأمان لم يعد مجرد ميزة إضافية، بل أصبح شرطًا أساسيًا لبناء الثقة. فالثقة هي البنية التحتية الحقيقية للشمول المالي، وبدونها لا يمكن لأي نظام – مهما بلغت تقنيته – أن يصمد أو يتمدد.
مستقبل الذكاء الاصطناعي في الخدمات المالية يبدأ من اليوم
مما سبق يمكن التأكد من أن المستقبل سيكون للذكاء الاصطناعي لأنه لا يعالج المشاكل القائمة فقط، بل إنه يمكن أن يساعد في خلق وإنشاء نماذج عمل جديدة في تمويل الشركات الصغيرة، وقطاعات إدارة الخزينة، وتوقع معدلات النمو. ولكن بشرط صياغة ووضع معايير أخلاقية واضحة، تلتزم بحماية الخصوصية، وتستثمر في بناء كوادر مؤهلة للتعامل مع هذا الأمر بكل ما يستجد عليها بصورة لحظية.
لكن هذا التحوّل يتطلب توازنًا دقيقًا بين الابتكار والحوكمة:
• نحتاج إلى وضع معايير واضحة تحمي خصوصية البيانات وتضمن العدالة في استخدام الذكاء الاصطناعي
• ونحتاج إلى استثمار جاد في الكوادر المصرية، تدريبًا وتمكينًا، لضمان استمرارية التطوير.
• ونحتاج إلى حوار مفتوح يجمع بين القطاع الخاص، والجهات الرقابية، والمجتمع المدني لصياغة ملامح هذا المستقبل بشكل جماعي ومسؤول.
دعوة للحوار لا لوضع الحلول فقط، بل لصياغة القواعد الجديدة
نحن لا نتعامل مع تطور تقني فقط، بل مع تحوّل ثقافي في كيفية تعاملنا مع مفاهيم المال، والعميل، والثقة. من هنا، أدعو كل من يعمل في القطاع المالي، سواء كان بنكًا، شركة تأمين، منصة تمويل، أو جهة تنظيمية، إلى صياغة رؤية وطنية مشتركة لدور الذكاء الاصطناعي في مستقبلنا المالي.
قواعد اللعبة تتغيّر، ومن لا يشارك في وضعها اليوم، سيجد نفسه في الغد على هامشها. العالم يُعاد تشكيله من حولنا، وعلينا أن نكون في قلب هذا التشكيل، لا على أطرافه.