انتهي عام 2023 وهو من الاعوام الصعبة اقتصادياً علي المستوي الاقليمي والعالمي ويرجع هذا التوصيف بالصعوبة لعدة عناصر متنوعة منها ما هو تراكمي ومنها ما هو مستمر ومنها ما هو بسبب اجراءات تم فرضها قسراً علي النظام الاقتصادي العالمي خلال 2023.
ومن الاسباب التراكمية التداعيات المركبة لازمات 2020 و2021 منذ تفشي كورونا وما تلاها من اثار علي ازمات النقل الدولي والملاحة واللوجستيات وسلاسل الامداد والتوريد العالمية وازمات الطاقة الممتدة عبر نفس السنوات.
أما الأسباب المستمرة والممتدة فتتمثل في اثار اندلاع الحرب الروسية الاوكرانية منذ مارس 2022 وما تبعها من عقوبات امريكية واوربية منذ ذلك التاريخ، وما فرضته روسيا في المقابل من عقوبات ضد قائمة الدول غير الصديقة من الاوربيين والامريكيين وجميع الدول التي شاركتهم في تطبيق العقوبات ضدها، والتي شهدت تصاعد سريع ومتوالي طوال 2022 و2023 لتشمل كافة القطاعات الصناعية والتجارية والمعاملات الدولية ونظم المدفوعات العالمية وامدادات الغاز والطاقة الروسية، بل وحتي التهديد بوقف استيراد الوقود النووي الروسي الذي يعتبر عصب تشغيل محطات الطاقة النووية الكهربائية في امريكا وأوروبا.
اما الاسباب الإجرائية التي فرضت قسراً علي الاقتصاد العالمي خلال 2023 فكان توجه البنك الفيدرالي الامريكي لاتباع سياسة نقدية متشددة عبر رفع اسعار الفائدة الامريكية بشكل غير مسبوق، وهو ما شكل تحدياً صعباً لكافة الاقتصاديات علي مستوي العالم والتي استطاع بعضها التأقلم معها بفعل قوته الذاتية مثل الاقتصاديات الاوربية والخليجية في حين عانت منه الاقتصاديات الناشئة وسريعة النمو، بالإضافة الي الاقتصاديات النامية والضعيفة بالتبعية والتي حاولت كل منها البحث عن حلول وتنفيذ خطط سريعة لتدارك هذه الاثار السلبية، وعلي راسها هروب الاستثمارات الاجنبية الي الاقتصاد الامريكي الأعلى من حيث الفائدة والأقوى من حيث الائتمان تاركة اكثر من 80% من الاقتصاديات العالمية تعاني من مضاعفة الضغوط الاقتصادية الهيكلية.
ولم يلبث عام 2023 يقترب من الربع الاخير حتي تصاعدت الاحداث الاقليمية في غزة منذ 7 اكتوبر الماضي ليفرض المزيد من التحديات علي الاقتصاديات الاقليمية، بالإضافة الي الضغوط السياسية المتوالية ذات الارتباط بالعمليات الاقتصادية في مفهومها الشامل.
ومع انتهاء 2023 بأيامها الثقيلة بضغوطها والصعبة بأحداثها ودون وضوح لمستقبل الكثير من الاسباب الهيكلية التي فرضت هذه التحديات اصبح من الصعب تقديم تحليلات متفائلة الا مع الكثير من الحذر والكثير من الامل اعمالاً للحكمة الازلية [دوام الحال من المحال].
فالحاصل علي ارض الواقع ان مستقبل الحرب الروسية الاوكرانية سيتجه الي اوضاع برجماتية سواء تحت ضغط عدم قدرة اي طرف علي حسم النزاع نهائياً لصالحه وزيادة التململ الاوروبي من اثار الحرب وانشغال الامريكيين بخريطة الشرق الاوسط وانتخابات الرئاسة الامريكية التي يتوقع لها الكثيرين ان تكون الاكثر شراسة خاصة اذا ما استطاع ترامب العودة كمرشح يبحث عن الانتقام وتصفية الحسابات.
هذا ويتوقع الكثير من الاقتصاديين ان يتبني الفيدرالي الامريكي سياسة نقدية اقل تشدداً عن ما تم في 2023 بعد تحقيقه لنتائج جيدة ومرضية.
ويضاف إلى ما سبق مطالبة العديد من الخبراء الاستراتيجيين الي مراجعة الاثار الارتدادية لسياسة العقوبات الامريكية سواء المنفردة او بالشراكة مع اخرين دون غطاء من مجلس الامن الدولي خاصة مع قدرة روسيا وقبلها إيران علي تجاوز هذه العقوبات عبر بناء تحالفات اقليمية ودولية واتساع مستوي هذه التحالفات خاصة مع الصين والهند بعيداً عن السياسات الامريكية وهو ما يهدد بتدعيم هذا النسق الاقتصادي المعارض والمستقل، والذي يحذر الخبراء من ان اتساعه قد يؤدي الي عزلة الاقتصاد الامريكي وتهديد السيادة النقدية للدولار، وتدعو الحكومة الامريكية لاتخاذ تدابير عاجلة لعرقلته ولو بغض النظر عن تنفيذ الكثير من العقوبات فعلياً علي غرار تعطيل مجلس الشيوخ الامريكي لقانون حظر استيراد الوقود النووي من روسيا والذي اقره مجلس النواب ليتأجل تنفيذه لمدة خمس سنوات.
وحتي في منطقة الشرق الاوسط فمن المتوقع ان تجد طريقها الي تسوية مؤقتة او مرحلية تضمن التهدئة في المنطقة المركزية لحركة النقل والملاحة الدولية والاكثر قرباً من امدادات الطاقة والغاز.
ومما يحث علي التفاؤل الحذر ايضا ان الكثير من الدول ذات الاقتصاديات الناشئة وسريعة النمو وتحت ضغوط الاعوام السابقة اتجهت لبناء تحالفات اقتصادية جديدة وانتهاج سياسات اقتصادية مستقلة علي غرار انضمام السعودية والامارات ومصر واثيوبيا لمجموعة دول البريكس والتي بداء تفعيلها اعتباراً من اول يناير 2024.
كل هذه المتغيرات وما تنطوي عليه من تفاصيل كثيرة تجعلني اؤكد أن افضل وصف لعام 2024 هو انه عام التفاؤل الحذر اقتصادياً بامتياز علي المستويات الاقليمية والعالمية.