جاءت تصريحات صندوق النقد الدولي عن تراجع نسبي في هيمنة الدولار علي المعاملات التجارية وان كان لايزال يحتفظ بالصدارة بنسبة 47% من المعاملات الخاضعة لنظام المدفوعات العالمي "سويفت" و60% من نسبة الاحتياطات النقدية بالبنوك المركزية لكافة الدول.. حيث دفعت هذه التصريحات الي نقاشات حول مستقبل هيمنة الدولار علي الاقتصاد العالمي سواء في التجارة او كأهم مكونات الاحتياطات الاستراتيجية للدول… بعد الدهب بالطبع؟
هذا التساؤل الذي يمتد علي مدار اكثر من 80 عاما منذ صدمة نيكسون التي اعلن فيها انتهاء عصر الغطاء الذهبي وسيادة الورقة الخضراء مدعومة باتفاق البترودولار كقوة مساندة وداعمة لمصداقيتها عالميا "بموجب تسعير البترول بالعملة الامريكية" حصريا واستخدامها فقط دون غيرها في قبول المدفوعات مقابل النفط.
وفي السنوات التالية لم تشكل العملة الامريكية تهديدا للنظام المالي العالمي الذي ظل خاضعا لتوازنات سياسات الحرب الباردة التي فرضت قيود كبيرة علي قدرة امريكا علي فرض عقوبات موسعة وحتي العقوبات التي فرضت علي بعض الدول مثل كوبا وجنوب افريقيا العنصرية وكوريا الشمالية وايران كانت عقوبات سلعية واقتصادية ولم تمس المعاملات المالية ولم يتم استخدام الدولار كأداة من ادوات العقوبات الاقتصادية بشكل موسع يعتد به الا مع برنامج العقوبات الدولية ضد العراق بعد حرب الخليج الثانية وبرنامج النفط مقابل الغذاء وايضا وفي الجهة المقابلة بدات امريكا في اضافة العقوبات المالية الي سلة عقوبات ايران اواخر التسعينيات لفرملة برنامجها النووي والصاروخي لتنطلق بعدها السياسة الامريكية في الاعتماد علي العملة كأحد اهم مكونات سلاح العقوبات الاقتصادية مدفوعة بسيطرته شبه التامة علي المعاملات التجارية الدولية والتي يشكل المكون الامريكي نصيب الاسد فيها بناتج قومي اجمالي غير مسبوق تاريخيا " اكثر من ثلث الانتاج العالمي في ذلك الوقت".
ومن خلال الدولار كأحد ادوات العقوبات لاتستطيع الدول الخاضعة للعقوبات الوصولللأسواق الدولية للحصول علي احتياجاتها او تصريف منتجاتها ولابد ان تدخل في اتفاقات خاصة ثنائية واقليمية بتنازلات ضخمة وحالة من عدم اليقين بحكم ان العملة في النهاية مجرد فكرة تعتمد علي الثقة في قبولها من الطرف الاخر وفي كل الاحوال وتحت اي ظرف لازال هذا القدر من الثقة محجوز حصراً للدولارالذي هو السيد الموثوق به بلامنازع حتي ان الكثير من الدول الخاضعة للعقوبات ورغم ماتعلنه عن الاستغناء عن الدولار والاقتصاد الامريكي فإنها تلجأ دائما الي حلول عملية تضمن لها الوصول لأسواق التداول بالدولار كما هو الحال في ممارسات كوريا الشمالية و ايران والتي تم الكشف عنها مؤخرا من خلال شبكات التداول عبر اطراف ثالثة وكيانات خفية او تحمل جنسيات دول اخري حليفة غير خاضعة للعقوبات.
ورغم اتساع نطاق العقوبات الامريكية جغرافيا لتشمل الي جانب كوريا الشمالية وكوبا وايران دول اخري ولو بدرجات اقل حده او في حالات خاصة كما هو الحال في الضغط الامريكي علي تركيا للأفراج عن امريكي تحت المحاكمة او ضد الصين وبعض شركاتها العاملة في قطاع الاتصالات والتكنولوجيا الفائقة الا ان العقوبات الامريكية ضد روسيا عقب اجتياح الاخيرة لأوكرانيا كانت الحدث الابرز في اتجاه الدفع نحو هز عرش الدولار بفعل الثقل الروسي وعلاقاتها الاقتصادية مع الصين والهند بالإضافة الي تكتل مجموعة البريكس .
وتلاقت الرغبة الصينية الروسية مع رغبة الكثير من الدول التي تري ان الدولار عامل مهم في تحجيم قدراتها والضغط علي هياكلها التنموية لتبدا مرحلة جديدة من التحالفات ضد الهيمنة الدولارية علي الاقتصاد العالمي .
ومن هنا تأتي اهمية تصريحات مسئولي صندوق النقد الدولي حول حدوث تراجع طفيف في هيمنة الدولار علي المعاملات المالية الدولية ليعود السؤال القديم مرة اخري بقوة اكبر وبتحديد اكثر ليصبح هل ينجح التحالف الروسي الصيني الهندي مع عدد من الدول الأخرى المؤثرة في كسر الهيمنة الدولارية علي الاقتصاد العالمي وهل يمكن ان نري ذلك عاجلا او حتي في القريب العاجل؟
اعتقد ان السنوات القادمة سوف تحمل اجابات اكثر وضوحا او حتي ملامح لإجابات مأمولة لهذا السؤال الهام الممتد علي مدار اكثر من ثمانين عاماً مضت واعتقد انه سيمتد لمدة عقود اخري قادمة.