على غير المعتاد صاحب انعقاد قمة مجموعة بريكس في جنوب افريقيا الشهر الماضي حالة من الاهتمام المتزايد في الاوساط الاقتصادية الإقليمية والعالمية رغم كون مجموعة بريكس قديمة النشأة نسبيا وتعقد اجتماعات قمة سنوية دون صخب أو ضجيج فلماذا الآن كل هذه الحالة من الاهتمام؟ وهل نحن أمام عالم جديد متعدد الأقطاب اقتصاديا في مواجهة عالم بريتون وودز الذي تمثله مجموعة الدول السبع الصناعية الأكثر تقدما؟.
وللإجابة على هذا التساؤل نحتاج للرجوع بالذاكرة إلى ثمانية عشر عاما وتحديدا في سبتمبر 2006 وعلى هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك حيث اجتمع وزراء خارجية دول البرازيل وروسيا والهند والصين لتعقد بعدها بعامين في 2008 وبالتزامن مع قمة الثماني الكبرى في نفس الجزيرة ...قمة هوكايدو لرؤساء الدول الأربع ليعقبها في يونيو من العام التالي 2009 اجتماع قمة اخر في روسيا للإعلان عن انطلاق تأسيس نظام عالمي جديد ثنائي القطب وما يتطلبه من مؤسسات ومنظومات مالية واقتصادية واتفق الرؤساء على مواصلة التنسيق في كافة القضايا الاقتصادية ومواجهة مشكلات الأمن الغذائي ولاحقا في 2010 انضمت جنوب افريقيا للمجموعة لتكتسب اسمها الراهن [بريكس] والذي يأتي اختصار للاحرف الاولى من الاسم اللاتيني لهذه الدول ويستند مفهوم هذا التجمع في الأصل إلى أطروحة الاقتصادي العالمي جيم اونيل عام 2001 في توصيفه للاقتصاديات سريعة النمو المتوقع لها الهيمنة على الاقتصاد العالمي بحلول 2050.
ومن هذه الخلفية الفكرية وبهذا الإطار التنظيمي أصبحت مجموعة بريكس هي المنافس الاقتصادي لمجموعة السبع وهيمنتها على الاقتصاد العالمي خاصة مع تأكيدات بريكس بتأسيس نظام مالي عالمي للمدفوعات وعملة احتياطي استنادا لعملات دولها.
واستمرت الاجتماعات خلال السنوات التالية لاكن دون خطوات فعالة على أرض الواقع باستثناء انتظام في عقد الاجتماعات على المستوى الوزاري ومستويات القمة سنوية حتى جاءت عقوبات الدول الغربية ضد روسيا في 2014 عقب ضم الاخيرة لجزيرة القرم لتبدأ روسيا في محاولات تنشيط وطروحات المجموعة وتسريع خطواتها التنفيذية كأحد أدوات التغلب علي هذه العقوبات الا أن المجموعة ظلت بطيئة في التطبيقات الواقعية وذلك في ضوء ارتباط أطرافها بعلاقات اقتصادية ضخمة ومتشعبة مع دول مجموعة السبع الكبار وحالة الركود الاقتصادي مع أزمة كوفيد 19 وتداعياتها على الاقتصاديات المحلية والاقتصاد العالمي مما جعل سلم الأولويات يختلف لدى أعضاء البريكس وفي عام 2022 تأتي الحرب الروسية الاوكرانية ومع حزم متتالية غير مسبوقة من العقوبات ضد روسيا والتي أظهرت بشكل واضح مدى قوة ادوات نظام بريتون وودز في فرض عقوبات اقتصادية مؤلمة على خلفيات سياسية وفق توجهات السبع الكبار وهو ما جعل روسيا وباقي مجموعة بريكس وخاصة الهند والصين التي تؤثر عليها العقوبات ضد روسيا بطريق غير مباشرة اتجهوا جميعا إلى وضع برامج تنفيذية فعلية وفتح باب العضوية والانضمام أمام الدول الراغبة في عضوية المجموعة ليتقدم لها 22 دولة بطلب الانضمام.
فقد كان لقسوة العقوبات الغربية ضد روسيا وما تضمنته من تعسف في استعمال الأدوات المالية العالمية مثل نظام الدفع (سويفت) وعصا الدولار كعملة احتياطي عالمي أثره البالغ في حرص كافة الدول وخاصة الصاعدة على تأمين مستقبل معاملتها الاقتصادية دون التأثر بأي برامج عقوبات سواء مباشر أو غير مباشر وبما يضمن لها تأمين إمداداتها الغذائية وإمدادات الطاقة دون آثار مرهقة على اقتصادياتها، وتجمع مثل البريكس يمكن أن يحقق مثل هذا التوازن خاصة وأنه يساهم بحوالي 31% تقريبا من إجمالي ناتج الاقتصاد العالمي في حين تبلغ مساهمة مجموعة السبع الكبار حوالي 30% وهي نسبة ثابتة منذ عدة سنوات وهذه الحقائق هي سبب هذا الاهتمام غير المعتاد لقمة بريكس في أغسطس الماضي والتي يمكن من خلالها وعبر أدوات ونظم محترفة كسر حالة الاحتكار الغربي للأدوات المالية وعمولات الاحتياطي العالمي الرئيسي بما يوفر غطاء آمن للدول الأعضاء من أي ممارسات اقتصادية احادية لا تراعي أو قد تضر باقتصاديات الدول الناشئة او النامية وأعتقد أن نجاح مجموعة بريكس في ذلك سيؤدي إلى عالم ثنائي القطب اقتصاديا بعد سيادة نظام بريتون وودز لأكثر من 70 عاما وهو ما ستكشف عنه الممارسات الفعلية خلال السنوات القادمة.