يستعرض المقال كيف ساهم القائمين على السوق المصرفي المصري في افساد سوق الصرف وكيف إن الاختلالات الهيكلية في الاقتصاد المصري، التي تم ذكرها المقال السابق قد أدت إلى تعدد أسواق الدولار وتعدد أسعاره في أسواقه المختلفة.
والتي يمكن حصرها في ثلاث أسواق رئيسية على النحو التالي. "السوق الأول" وهو السوق الرسمي داخل الجهاز المصرفي المصري (وفيه أربعة أسعار على الأقل للدولار) - وهو أول من أفسد سوق الصرف؛ حيث أصبح المثل الشائع "إذا كان رب البيت بالدف ضاربُ، فشيمة أهل البيت الرقص" هو شعار كل المتعاملين مع والمضاربين على الدولار- الذهب.
أما "السوق الثاني" فهو السوق غير الرسمي داخل الدولة المصرية "حدث ولا حرج عن عدد أسعار الدولار في هذا السوق والذي يكاد يختلف من سلعة أو خدمة وأخرى" – وهو السوق الذي استفاد بدرجة إجرامية من الممارسات الخاطئة للسوق الرسمي عن طريق المضاربة المحمومة على الدولار.
وأخيرا يأتي "السوق الثالث" وهو السوق غير الرسمي خارج الدولة المصرية، في الدول الخليجية على وجه التحديد "ويتم فيه تحديد السعر حسب كمية العملة الخليجية أو الدولار المطلوب تحويل قيمتهم للجنيه المصري على أن يكون التسليم في السوق المصري" – والذي يلعب فيه ويتلاعب به المضاربين وأصحاب المصالح للاستحواذ على مدخرات العاملين في الخارج ومنع تحويلها للداخل حتى وإن اشتدت معاناة الاقتصاد المصري سعيًا وراء تحقيق مصالحهم شخصية.
إنه لمن المعلوم للمتعاملين على الدولار من خلال قنواته الشرعية "البنوك" أن هناك أربعة أسعار (تكلفة) لتدبير الدولار في الجهاز المصرفي المصري تحت سمع وبصر "البنك المركزي المصري" وهي تتراوح ما بين:
(1) السعر الرسمي المعلن من جانب البنوك والذي تتعامل به البنوك شراءً ولا تتعامل به بيعًا، وبالتالي فهو سعر وهمي.
(2) سعر الدولار في العقود المستقبلية (Non-Deliverable Forward Contracts) والتي تعتمد على التسوية النقدية (Cash Settlement) في تاريخ الاستحقاق (Settlement Date) والذي يزيد عن السعر المعلن بحوالي 10% في المتوسط للعقود قصيرة الأجل، والتي يتراوح المدى الزمني لتسويتها ما بين 3-9 أشهر.
برجاء الانتباه لمصطلح التسوية النقدية للعقد والذي نص عليه المشَرع "المركزي" في العقود المستقبلية، التي تبرمها البنوك، مما أدى إلى تحويل العقود المستقبلية إلى عقود مضاربة على الدولار بدلاً من الاستخدام "الصحي" لهذه العقود كأدوات تحوط ضد مخاطر تقلب سعر الصرف، وكأن المشرع الذي دوره الأساسي الحد من المضاربة على العملات الأجنبية استقرار سعر الصرف يعمل على تحقيق عكس ذلك من خلال الأدوات المالية، التي يقدمها للسوق لو كان المشَرع يعمل على تحقيق الاستقرار لأسعار الصرف في الاقتصاد المصري لقام بتقديم عقود مستقبلية (Deliverable Forward Contracts) تلزم البنك المتعاقد عليها بالتوريد الفعلي للعملة المنصوص عليها في العقد (Underlying Currency) في تاريخ التسوية (Settlement Date) على سعر الصرف المتفق عليه (Exchange Rate) للكمية المتفق عليها في العقد.
إن النوع الأول من العقود المستقبلية يحقق مصلحة البنك على حساب مصلحة رجال الأعمال الذين لم يستفيدوا منه شيئًا، وقد أدى هذا إلى إحجام رجال الأعمال عن التعامل عليه.
(3) سعر الدولار الذي تزيد تكلفة الحصول عليه بمقدار عمولة تدبير العملة والتي تتراوح ما بين 8%-10% والتي تضاف إلى السعر المعلن بالأضافة الي مجموعة من الرسوم وعلاوات التحوط وتكاليف أخرى تضاف إلى مصاريف تدبير العملة، وبالتالي يتجاوز السعر الفعلي للدولار وفقًا لهذه الآلية المجحفة الـ 45 جنيهًا، وهو ما يزيد عن السعر الرسمي المعلن بـ 50% على الأقل.
(4) عدم الإلتزام بتدبير العملة لمنظمات أو رجال الأعمال لفتح الإعتمادات المستندية؛ حيث امتنعت البنوك المصرية عن تدبير احتياجات العملاء ورجال الأعمال من العملات الأجنبية ومطالبتها لرجال الأعمال بتدبير 120% من قيمة احتياجاتهم لفتح إعتماد مستندي للاستيراد من الخارج أو لتحويل أموال للخارج.
بمعني أنه إذا كان سعر الدولار في السوق 60 جنيه وفي البنك 31 جنيه تقريبًا ومطلوب فتح اعتماد مستندي قيمته 1,000,000 دولار فإن البنك يطلب من العميل تدبير 1,200,000 دولار من السوق (بالتأكيد سيتم الشراء من السوق غير القانونية بسعر 60 جنيه للدولار) ويقوم البنك بشرائهم من العميل بالسعر الرسمي المعلن (31 جنيه للدولار) ثم يقوم البنك بفتح الإعتماد المستندي بمبلغ 1,000,000 دولار للعميل.
في هذه الحالة فإن تكلفة الدولار علي العميل ليست 31 جنيه ولا 60 جنيه وإنما هي 65.15 جنيه، وهو ما ترتب عليه موجات تضخمية عاتية (Hyper Inflation) في الاقتصاد المصري وكذلك ممارسات عشوائية في التسعير نتيجة لعدم وضوح الرؤى وعدم القدرة على التنبؤ "ليس بسعر الصرف" ولكن بعدم القدرة على التنبؤ "بسياسات المركزي" والتي تتبع "نظرية الخروف" في تسعير الدولار.
للأسف أن من قام بكل ما تم ذكره والذي ساهم في إفساد سوق الصرف المصري وإنفلات سعر العملات الأجنبية هو "الجهاز المصرفي المصري" بموافقات صريحة أو ضمنية، خطية أو شفوية، تحت سمع وبصر "البنك المركزي المصري" الذي إن كان يعلم فتلك مصيبة وإن كان لا يعلم فالمصيبة أكبر.
خلاصة القول إنه في ظل كل سلبيات الجهاز المصرفي المصري والتي أدت إلى إنفلات الأسعار وزيادة حدة التضخم، فإن التعويم بغرض خلق سعر توازن بين الدولار والجنيه المصري في ظل عشوائية سوق الصرف الرسمي وغير الرسمي، داخل البلاد وخارجها، ما هو إلا وهم وسراب سوف يؤدي إلى هلاك المواطن المصري والذي لن يجدي معه أي حزم إجتماعيه لرفع مستوي معيشته.. وللحديث بقية.