خواطر لندنية

أخر تحديث 2023/07/04 09:15:00 ص
خواطر لندنية

أخذتني ظروف العمل الشهر الماضى إلى العاصمة البريطانية بعد انقطاع دام حوالي أربع سنوات بسبب الكوفيد اللعين. فلم أكن أنقطع أكثر من بضعة شهور عن لندن التى كانت ومازالت، بحد أقل بعد البريكزيت، بمثابة قبلة للعاملين فى مجال التمويل والاستثمار. ولندن بالنسبة لي تمثل عشق ما بعد النضوج، فكانت فرنسا هى عشقى الأول بحكم تعليمي فى مدرسة الجزويت الفرنسية العريقة في قلب القاهرة النابض. لكن مع الوقت وجدتني أفضل تمضية الوقت فى لندن وأتحين فرصة السفر إليها لظروف العمل لكي أسترق أياما أقضيها مع الأصدقاء الكثيرين الذين اتخذوا منها مقرا لهم على مدار السنوات.

وقد انتهزت فرصة الزيارة لاكتساب رؤية لما يحدث على أرض الواقع مقارنة بما أطالعه من الأبحاث التى أتابعها باستمرار والتى أعتمد عليها لاتخاذ قرارات الاستثمار فى أوروبا. وسأسرد هنا أهم الخواطر التى خرجت بها من الزيارة:

1ــ الأصدقاء الذين يزورون المدينة بصفة مستمرة كانوا ينقلون لي انطباعا أن لندن تعاني من شبه ركود تسبب فى اختفاء عدد كبير من المحال الشهيرة، خاصة فى المناطق المهمة فى وسط المدينة؛ مثل شارع أكسفورد والمنطقة المحيطة به. والحقيقة أنني وجدت أن ذلك غير دقيق. بالطبع هناك بعض المحال التى اختفت من الوجود خاصة الصغيرة منها، ولكن تقريبا كل المحلات الكبيرة مازالت فى مكانها وتعمل بقوة. حتى مع إلغاء الحكومة الإنجليزية ميزة استعادة ضريبة القيمة المضافة للزائرين مازالت المحلات تعمل بطاقة مضاعفة ترهق العاملين بها.

2ــ عدد السياح أيضا مذهل خاصة من الولايات المتحدة الأمريكية. ويبدو أن عشرات الآلاف من السياح الأمريكيين الذين قاموا بإلغاء إجازاتهم إلى أوروبا بسبب الحرب الروسية الاوكرانية العام الماضى قرروا تمضية إجازاتهم هذا العام بأعداد مضاعفة فى أوروبا وخاصة فى الأراضي الانجليزية.

3ــ أكدت هذه الملاحظات ما كنا نشك فيه فى الأسابيع القليلة الماضية من حيث تأثير رفع أسعار الفائدة على التضخم العالمي. ففى أسوأ الأحوال سيستمر التصخم فى الارتفاع، وفي أفضل الأحوال سيستقر التضخم عند مستوى أكثر ارتفاعا مما ترتاح له البنوك المركزية. وبالتالي ذلك يعني أن مهمة البنوك المركزية أبعد ما يكون عن الانتهاء، وبالتالى سياسات التشديد النقدي ستستمر إلى أن يحدث انكسار حقيقى للتضخم. تأمل البنوك المركزية في ما يسمونه بالهبوط الهادئ soft landing وهو تباطؤ الاقتصاد العالمي بدون الدخول فى ركود يتسبب فى ارتفاع مستوى البطالة. ربما ينجحون، وإن كنت أشك فى ذلك. ولكن الأكيد أنهم يجب أن يبطئوا من النشاط الاقتصادي العالمى لدرجة ستجعل الاقتصاد يبدو كأنه فى ركود حتى وإن لم يدخل فى ركود بالتعريف التقنى للكلمة. والحقيقة أن مستوى قوة القطاع الخدمي بالذات يجعلني شبه متأكد من وجوب حدوث ركود فى أغلب الدول المتقدمة لتبطئ وتيرة التضخم. أما آمال الهبوط الهادئ فوصفها لاري سامرز، وزير الخزينة الأمريكي الأسبق، بأنها انتصار للأمل فوق الخبرة، فالواقع يقول ــ كما أتوقع ــ إن «فرامل» الاقتصاد تحتاج إلى أن تعمل بقوة أكبر وإلا سيكون الثمن هو خروج معدلات التضخم عن النطاق الطبيعي مما يعنى اختفاء الثقة فى قدرة البنوك المركزية على كبح جماحها وبالتالى تصبح المشكلة متأصلة ويصعب التخلص منها.

4ــ مع تكرر الزيارات أصبحت عندي طقوس للزيارة اللندنية ودائما ما تمر بمسارح لندن وهى تجربة فريدة من نوعها أجدها حتى أكثر متعة من مسارح برودواي فى نيويورك. وسؤالي هنا هو ماذا حدث للموسم المسرحى المصري؟ فى صبانا كانت زيارة السائح العربي بالذات إلى مصر بها أيضا عدد من الطقوس، منها ارتياد مسرحيات فى خضم موسم مسرحي غني شتوي وصيفي. فهل اختفاء هذا الموسم انعكاس لضحالة الحالة الفنية أم هو انعكاس لضحالة التجربة السياحية فى مصر بعد أن تم اختصارها فى بعض المطاعم والكافيهات أم هو شيء آخر؟ خسارة أن نفقد ميزة كانت مصر تنفرد بها فى هذه البقعة من العالم.

5ــ تبقى لندن قبلة لرؤوس الأموال من الدول النامية. سألني صديقي كيف تبقى إنجلترا عامة ولندن خاصة فى حالة جيدة حتى فى ظل ظروف اقتصادية صعبة. قلت له إن السبب أن أغنياء دول العالم الثالث لديهم تسلسل فى حفظ ثرواتهم. يبدأ من فتح حسابات خارج بلادهم فى دول أوروبية وفى نفس الوقت يشرعون فى شراء محفظة استثمار عقارية فى بلادهم. أما الخطوة التالية فغالبا ما تكون شراء منزل فى لندن. ولذلك فأسعار المنازل هناك تظل شديدة الارتفاع مهما كانت الظروف. هى أيضا مكان جاذب للاستثمار لما لها من ثقل اقتصادي وجاذبية تاريخية وثقافية. هى جاذبية استطاعت الخبرات الإنجليزية أن تنقلها بدرجات متفاوتة إلى دبي وهونج كونج وسنغافورة وكلنا أمل أن نرى مصر فى يوم من الأيام تتبوأ نفس المكانة فى خريطة الاستثمارات العالمية.

بالتعاون مع جريدة الشروق

 

مقالات الرأى المتعلقة

محمد الهوارى

يشغل محمد الهواري منصب مدير صناديق استثمار تحوط أوبليسك منذ عام 2018. بعد حصوله على شهادة البكالوريوس في إدارة الأعمال من الجامعة الأمريكية في القاهرة عام 1995، عمل في شركة العائلة المتخصصة في مجال الحديد والصلب حتى حصوله على شهادة الماجستير في إدارة الأعمال. أنشأ بعدها مكتب الاستثمار العائلي الذي تحول فيما بعد لشركة الأندلسية للاستشارات المالية والاستثمار، ثم شغل منصب مدير صناديق الشرق الأوسط لشركة جروفن لإدارة الصناديق قبل أن يشارك في إنشاء صناديق أوبليسك.