أطلق المفكر المصري الكبير، جمال حمدان، مؤلفه الضخم عن (شخصية مصر وعبقرية المكان) في دراسة موسوعية تربط جغرافية مصر بماضيها وحاضرها ومستقبلها وبمكوناتها السكانية وتفاعلاتها الإقليمية والدولية ليصل إلى اصطلاح (عبقرية المكان) كنتيجة وسبب كاف للفحص والدراسة من خلاله لكل ما يتعلق بالحالة المصرية.
وبنظرة اقتصادية يمكن أن نؤكد على مجمل ما توصل إليه حول عبقرية المكان وتأثيره علي الاقتصاد المصري، وهو ما ظهر أمامي واضحا وجليا حين قرأت التقرير الصادر عن البنك الدولي يوم 6 يونيو 2023 تحت عنوان الآفاق الاقتصادية العالمية.
حيث يحدد التقرير توقعاته لمعدلات النمو للاقتصاديات الناشئة واقتصاديات دول منطقة الشرق الاوسط وشمال افريقيا والاقصاد العالمي ككل، وجاء في توقعاته أن يكون الاقتصاد المصري من أعلى معدلات النمو في المنطقة رغم كل التحديات التي يواجهها ليسجل نموا في 2023 بنسبة 4% مقارنةً بـ2.1% فقط للاقتصاد العالمي، ليتزايد في العام التالي ويصل إلى 4.7% في 2024.
ورغم الآثار الايجابية المباشرة للتقرير من حيث تدعيم ثقة المستثمرين في الاقتصاد المصري وإشادته بانخفاض معدل البطالة والاعتماد على مقومات وعناصر النمو كمحددات ارتكزت عليها نتيجة التقرير الا أن النظرة تزداد اتساعا بالنظر إلى التقارير السابقة ومقارنتها ببعضها البعض ومقارنتها بالنتائج المحققة في الاقتصاديات الاقليمية والاقتصاديات الناشئة لنكتشف أن مصر احتلت مراكز الصدارة في معدلات النمو خلال السنوات الخمس الماضية بمعدل يصل في بعض السنوات إلى ضعف متوسط النمو العام للمنطقة متجاوزة الكثير من الدول الأكثر ثراءًا والأقل سكانا وتأثرا بالمتغيرات السلبية الدولية على غرار تداعيات كوفيد19، وأزمات الطاقة، وأزمات سلاسل الإمداد والتوريد، وارتفاع أسعار الحبوب عالميا كجزء من تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، مضافا إليها خروج الاستثمارات الساخنة من السوق والارتفاع المتوالي في أسعار الفائدة الأمريكية ... فرغم كل ذلك لازال الاقتصاد المصري متفوقا بمعدلات نمو مرتفعة تتجاوز معدلات نمو الدول الناشئة، وهو الأمر الذي لايمكن تناوله إلا في إطار اهمية الاقتصاد المصري كجزء من عبقرية المكان في شخصية مصر كما رآها جمال حمدان.
فرغم كل هذه التحديات وآثارها الصعبة والتي لا يمكن تجاهلها أو غض البصر عنها ورغم أن بعضها يرتبط بعوامل عالمية التأثير مثل كورونا وتداعياتها أو الحرب الروسية الاوكرانية وانعكاساتها على الأسواق الدولية وصادرات الحبوب وما تلاها من أزمات عالمية متلاحقة بآثار كارثية على كافة الاقتصاديات... رغم كل ذلك لازال الاقتصاد المصري محتفظا بصدارته في معدلات النمو السنوية، وللعلم فان معدل النمو يعتبر من اهم المعدلات في قياس قوة اي اقتصاد فرغم أهمية العوامل والمعدلات الأخرى مثل التضخم والبطالة والميزان التجاري وميزان المدفوعات وغيرها الا أنها جميعا معدلات تابعة أما معدل النمو فهو المعدل الذي من خلاله يتم التحكم في كافة العناصر الأخرى واستمراره بنجاح يعني القدرة المستقبلية على تجاوز أي عناصر سلبية قد ترصدها المعدلات الأخرى والعكس صحيح تماما.
وهنا يظهر السؤال الأهم لماذا؟ وكيف؟ وما هي أسباب تميز الاقتصاد المصري في ذلك، وهل له علاقة بعبقرية المكان؟
بالطبع فعبقرية المكان تنعكس على كافة العناصر الاقتصادية والاجتماعية، فمصر تمتلك أكبر اقتصاد متنوع في المنطقة يضم كافة المكونات من زراعة وتجارة وصناعة وخدمات ونقل وتكنولوجيا وثروات معدنية، بالإضافة إلى الغاز والبترول والمقاصد السياحية الفريدة من آثار وشواطئ سياحية ممتدة على البحر الابيض والاحمر... هذه الخريطة شديدة التنوع والوفرة في مكوناتها من النادر تواجدها في موقع واحد يضاف إليها قوة بشرية هائلة بما يزيد عن 100 مليون نسمة تشكل سوق قوية من ناحية وامداد هائل لا ينضب من الموارد البشرية من ناحية ثانية... لذلك انا دائما من المتفائلين بمستقبلنا إيمانا بعبقرية مصر جغرافيا واجتماعيا واقتصاديا رغم كل التحديات التي تمر بها من وقت إلى آخر.