الخصخصة ضرورة لا رفاهية: قراءة في واقع الاقتصاد المصري

أخر تحديث 2025/09/10 03:34:00 م
الخصخصة ضرورة لا رفاهية: قراءة في واقع الاقتصاد المصري

لم يعد الحديث عن الخصخصة في مصر مجرد نقاش نظري أو جدل سياسي بين مؤيد ومعارض، بل أصبح مسألة حياة أو موت للاقتصاد الوطني. فالدولة المصرية، شأنها شأن كثير من الدول النامية، عانت طويلًا من تضخم القطاع العام وتحوله من رافعة للنمو إلى عبء متراكم يلتهم موارد الموازنة العامة دون مردود حقيقي. ومع استمرار النزيف، لم تعد الموازنة قادرة على تلبية احتياجات المواطنين الأساسية من تعليم وصحة وبنية تحتية، واضطرت الدولة إلى حلول قصيرة المدى مثل طباعة النقود والاقتراض، ما أدى إلى تضخم خانق تحمَّل المواطن البسيط كلفته المباشرة.

اليوم، يطرح قانون 170 لسنة 2025 إطارًا جديدًا لإعادة التوازن إلى الاقتصاد المصري عبر فتح الباب أمام إعادة هيكلة الشركات المملوكة للدولة وتوسيع دور القطاع الخاص ليكون المحرك الحقيقي للنمو. من هنا يصبح السؤال: هل الخصخصة رفاهية يمكن تأجيلها، أم ضرورة لا غنى عنها لإنقاذ الحاضر وصناعة المستقبل؟

نزيف شركات الدولة وأثره على الموازنة

الموازنة العامة للدولة المصرية تتحمل منذ عقود تكاليف باهظة نتيجة استمرار تشغيل شركات قطاع أعمال خاسرة. هذه الشركات التي أُنشئت في فترات مختلفة لتأمين وظائف وتحقيق الاكتفاء الذاتي تحولت إلى كيانات مترهلة غير قادرة على المنافسة، لا تواكب التطور التكنولوجي ولا تلتزم بمعايير الكفاءة والإدارة الحديثة.

وفق تقديرات خبراء الاقتصاد، فإن هذه الشركات تستهلك مليارات من الجنيهات سنويًا بين دعم مباشر وقروض لا تُسدَّد أو أعباء تشغيلية تُموَّل من أموال دافعي الضرائب. وبغياب الإصلاح الجذري، أصبح القطاع العام عبئًا مضاعفًا؛ فهو لا يحقق أرباحًا، ولا يتيح للدولة فرصة إعادة توجيه مواردها إلى الخدمات الأساسية، بل يفرض ضغوطًا مستمرة على الموازنة العامة.

ولمواجهة هذا العجز، لجأت الدولة في سنوات سابقة إلى طباعة النقود، وهو ما انعكس على ارتفاع معدلات التضخم بصورة غير مسبوقة. التضخم بدوره أضعف القوة الشرائية للمواطنين، وقلص من مستوى المعيشة، وأدى إلى فقدان الثقة في قدرة الاقتصاد على التعافي.

لماذا الخصخصة الآن؟

الخصخصة ليست فكرة جديدة في مصر، فقد شهدت تسعينيات القرن الماضي تجربة واسعة في هذا المجال، غير أنها واجهت انتقادات حادة تتعلق بغياب الشفافية وتراجع العدالة الاجتماعية. لكن الفارق اليوم أن الضغوط الاقتصادية باتت أعنف، ولم يعد أمام الدولة ترف تأجيل القرار.

فالقطاع الخاص هو القادر على ضخ استثمارات جديدة وتوظيف الكفاءات وإدخال التكنولوجيا وفتح أسواق تصديرية. في المقابل، الدولة مطالبة بالتركيز على أدوارها الجوهرية، وهي وضع القوانين المنظمة للأسواق، ومراقبة المنافسة ومنع الاحتكار، والاستثمار في البنية التحتية، وتوفير التعليم والرعاية الصحية والخدمات الأساسية.

وبالتالي، فإن الخصخصة ليست انسحابًا من المسؤولية، بل إعادة توجيه للموارد نحو ما يحقق مصلحة المواطن بشكل مباشر.

قانون 170 لسنة 2025: بداية مسار جديد

قانون 170 لسنة 2025 يمثل نقطة تحول مهمة، إذ يضع إطارًا قانونيًا يسمح للدولة بالتخلص التدريجي من عبء الشركات الخاسرة وإعادة تحديد دورها في النشاط الاقتصادي. القانون يفتح الباب أمام مشاركة القطاع الخاص في إدارة أو تملك الشركات العامة وفق ضوابط تضمن الشفافية والرقابة وحماية المال العام.

الهدف هنا ليس البيع لمجرد البيع، بل إعادة هيكلة الاقتصاد بما يسمح له بالنمو المستدام. القانون يتيح كذلك إنشاء صناديق سيادية متخصصة لإدارة أصول الدولة بطريقة أكثر كفاءة، مع التركيز على جذب استثمارات استراتيجية طويلة الأجل بدلًا من الحلول السريعة قصيرة المدى.

تجارب دول ناجحة في الخصخصة

الخصخصة ليست مغامرة بلا ملامح، بل تجربة خاضتها دول كثيرة وحققت من خلالها نتائج ملموسة. ففي المملكة المتحدة، بدأت الحكومة البريطانية في الثمانينيات برنامجًا شاملًا للخصخصة شمل قطاعات النقل والطاقة والاتصالات، وكانت النتيجة تحسن الكفاءة وجذب استثمارات ضخمة وتحرير الموازنة من أعباء متراكمة. بريطانيا نجحت في تحويل شركات كانت عبئًا على الدولة إلى كيانات ربحية عالمية.

وفي ألمانيا، بعد توحيد شطريها، واجهت ألمانيا الشرقية اقتصادًا مترهلًا يعتمد بالكامل على الدولة، لكن عبر برامج الخصخصة المدروسة نجحت ألمانيا في دمج تلك الشركات في اقتصاد السوق، ما أدى إلى نمو اقتصادي مستدام وتحسن كبير في مستوى المعيشة.

أما الهند فقد اعتمدت منذ التسعينيات على سياسة تحرير الاقتصاد وتقليص دور الدولة في القطاعات الإنتاجية. بفضل الخصخصة، قفزت قطاعات التكنولوجيا والاتصالات والخدمات المالية لتصبح الهند واحدة من أسرع الاقتصادات نموًا في العالم.

وفي أمريكا اللاتينية، ساعدت برامج الخصخصة في البرازيل وتشيلي على جذب رؤوس الأموال الأجنبية وتحسين البنية التحتية وزيادة كفاءة الخدمات العامة مثل الكهرباء والمياه.

هذه التجارب تؤكد أن الخصخصة ليست بيعًا للأصول وحسب، بل هي عملية إعادة هيكلة عميقة تعيد الحيوية للاقتصاد، شرط أن تتم في إطار من الشفافية ومع وجود سياسات اجتماعية لحماية الفئات المتضررة. بالنسبة لمصر، يمكن الاستفادة من هذه النماذج في تصميم برنامج متوازن يحقق الكفاءة الاقتصادية ويضمن العدالة الاجتماعية في الوقت نفسه.

مقالات الرأى المتعلقة

د. نرمين طاحون

محامية دولية، والمؤسس والشريك الإداري لمكتب طاحون للاستشارات القانونية. لأكثر من 25 عامًا، عملت طاحون كمحامية دولية لعدد من الشركات العالمية والمستثمرين، بالإضافة إلى الحكومة المصرية، وذلك قبل أن تؤسس مكتب طاحون للمحاماة عام 2009. شاركت في صياغة ووضع قانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص في مصر، وذلك خلال عملها مدير الشؤون القانونية لوحدة الشراكة بين القطاعين العام والخاص التابعة لوزارة المالية. كما حصلت على درجة الدكتوراه في التجارة الدولية والقانون التجاري من جامعة ميدلسكس بلندن.